السبت، 14 نوفمبر 2009

الحلم المؤجل

الحلم المؤجل

اسمحوا لي أن أعود اليوم إلى جملة مهمة قالها وزير الحسن الثاني الأول، الدكتور مولاي أحمد العراقي، في تقريره الذي أعده للملك بعد انقلاب الصخيرات. قال الدكتور «الكل صار اليوم يتساءل حول المستقبل، ومهما كان حظ كل واحد منا من المسؤولية، فليس هذا وقت النواح وإنما هو وقت الإصلاح. ولإصلاح هذا الوضع، فمن المستعجل جدا إعادة التفكير بشكل أساسي في عدد من المشاكل. إذ ينبغي إعادة الترشيد في عدد من المجالات».
ولعل أكثر المجالات المحتاجة إلى الإصلاح في مغربنا الحالي، والتي ظلت حجرا مزعجا في حذاء المملكة، هو القضاء. وليس صدفة أن الملك في كل مرة يخطب على شعبه يتعرض لإصلاح القضاء، حتى صرنا نخمن الكلمات والعبارات التي سيقول قبل أن ينطقها في التلفزيون.
الجميع يعرف أن إصلاح القضاء في هذه البلاد ليس بيد شخص آخر غير الملك. فالدستور يعطيه الصلاحيات الكاملة لإطلاق هذا الورش متى أراد. ويبدو أننا سمعنا ما يكفي من الكلام حول ضرورة إصلاح القضاء وكيف أنه بدون هذا الإصلاح سيظل المغرب متعثر الخطوات. إن هذا الكلام المكرور يذكر كثيرا بما قاله الدكتور العراقي عندما نصح الحسن الثاني بداية السبعينات بأن الوقت ليس وقت نواح وإنما وقت إصلاح. لقد فهم الجميع، وبالأمثلة التوضيحية، أن القضاء في المغرب يشكل عائقا كبيرا أمام تقدم المملكة. المطلوب اليوم بعد التشخيص الذي طال أمده المرور إلى المرحلة الثانية من العلاج، وهي إدخال هذا القضاء لغرفة الجراحة لاستئصال كل الفساد الذي يلطخ صوره الإشعاعية.
إصلاح القضاء ليس نزهة. إنه عمل شبيه بالإنقلاب الأبيض الذي سيترك ضحايا ومعطوبين ويتامى. لأن فتح جبهة الإصلاح في القضاء يتطلب وجود إرادة لمقاومة «اللوبي» المتحكم في دواليبه. وهو «لوبي» قوي ومنظم ومتجذر في المؤسسة المخزنية للممكلة. يمكن أن نتحدث عن أخطبوط قوي تمتد أذرعه في كل الاتجاهات، لكن رأسه يوجد في عاصمة المملكة.
إنه من العبث أن نعول على الأحزاب السياسية المشاركة في الحكومة للمشاركة في هذه العملية الانقلابية، فقد أثبت عباس الفاسي الوزير الأول أنه من أشد المدافعين عن القضاء في نسخته الحالية. رغم أنه قال في القضاء على عهد بوزوبع ما لم يقله مالك في الخمر. وقال قولته المشهورة للقضاة عندما نصحهم بالاستماع إلى ضمائرهم وليس إلى هواتفهم. كان ذلك فقط بسبب تجرؤ القضاء على عهد الاشتراكي بوزوبع على متابعة مرشحين استقلاليين بتهمة الفساد بعد التنصت على مكالماتهم الهاتفية حيث يتحدث بعضهم عن المواطنين كما يتحدثون عن الدواب في الأسواق.
وهكذا اكتشفت الأحزاب المشاركة في الانتخابات التي لديها مرشحون متابعون قضائيا بالفساد الانتخابي، الحديث حول إصلاح القضاء. خصوصا عندما تابعوا كيف حكمت محكمة مراكش بالبراءة لصالح مرشح اتحادي كان متهما بالفساد الانتخابي، في الوقت الذي أدين فيه مرشحون من أحزاب أخرى بالسجن والحرمان من الترشيح.
وعندما فهمت تلك الأحزاب أنه لا قدرة لها على فرض الإصلاح على مؤسسة القضاء من أجل تخليص المغرب من هذا الأخطبوط، فكروا في خلاصهم الفردي. وهكذا عرضوا على البرلمان قبل انتهاء ولايته قانونا يحميهم ويحمي مرشحيهم البرلمانيين من التنصت على هواتفهم. فالانتخابات على الأبواب، وخوفا من أن يتكرر نفس الفيلم من جديد، ويجد بعض المرشحين أنفسهم في المحاكم عوض قبة البرلمان، فقد سارعوا إلى حماية مياههم الإقليمية وتأمين حدودهم تحسبا لكل تنصت محتمل.
وهنا نطرح سؤالا عفويا، إذا كانت هذه الأحزاب ليست لديها نية لاستعمال الغش في الانتخابات، فلماذا تخاف أن تتنصت المخابرات على مكالماتها. يجب هنا أن نتذكر ما قاله عباس الفاسي لمرشحيه قبل الانتخابات الأخيرة، عندما نصحهم باستعمال الهاتف المحمول عند الضرورة فقط. يقول المغاربة في مثل هذه المواقف «مول الفز كيقفز».
ثم إن برلمانا تصوت فيه لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بالإجماع لصالح إسقاط المتابعة عن يوسف التازي المتابع في قضية فساد مالي لا علاقة لها بالسياسة أو المعارضة البرلمانية، لا يستحق أن ننتظر منه حمل لواء إصلاح القضاء. ويكفي أن نعرف أن هناك حوالي مائة وثمانين طلبا تقدم بها برلمانيون من مختلف الأحزاب والفرق البرلمانية إلى لجنة العدل والتشريع لإسقاط المتابعة ضدهم في قضايا مختلفة ليست لإحداها علاقة بعملهم النيابي. يعني قضايا تتعلق بالشيك بدون رصيد وباستغلال النفوذ والفساد الأخلاقي وغيره من الجرائم والمخالفات التي لا تعفي أصحابها من المتابعة ولو بوجود حصانة برلمانية. فالحصانة البرلمانية أوجدها المشرع لكي تحمي البرلماني من المتابعة القضائية في علاقة بعمله النيابي، أي أن الحصانة تحمي المعارضة البرلمانية مثلا من متابعة الأغلبية لها قضائيا في حالة التعبير عن رأيها المعارض داخل البرلمان.
ولعل أبرز مثال عن عجز الحكومة والبرلمان عن تبني موقف واضح من إصلاح القضاء، هو صمتهم المخجل عندما أهين القضاء من أعلى مراتبه إلى أدناها بإلغاء حكم البراءة في حق العفورة وأعيدت محاكمته من جديد أمام نفس قضاة المجلس الأعلى الذين حكموا عليه بالبراءة. وسكتت الحكومة والبرلمان عندما أهان شباط عمدة فاس قضاة المجلس الجهوي للحسابات ووصفهم بالإرهابيين. وعوض أن يتخذ عباس الفاسي الوزير الأول إجراءات تأديبية في حق زميله في الحزب، ذهب ليطلب من الميداوي رئيس المجلس الأعلى للحسابات أن يتكلم مع قضاته ويجبرهم على التخلي عن مقاضاة شباط.
عندما يهين عمدة فاس القضاء أمام الجميع ويقف هذا القضاء عاجزا عن متابعته، عندما يضبط الأمن عمدة الرباط متلبسا بشراء أصوات ناخبيه الذين أتى بهم في حافلات الجماعة إلى بيته، وبعد أشهر من التأجيل يخرج من القضية بريئا براءة الذئب من دم يوسف، نفهم أنه لا الحكومة ولا البرلمان لديهما القدرة على تنظيف آلة العدالة من كل الصدأ الذي يعلوها.
وإذا كانت هذه المؤسسات عاجزة عن مواجهة هذا «اللوبي»، فمن يا ترى يمكنه أن يفعل ذلك. ليس هناك غير شخص واحد يملك مفاتيح هذه الآلة الجهنمية التي أصبحت أداة لتصفية الحسابات السياسية والاقتصادية للمجموعات الباحثة عن النفوذ في مغرب أصبح المال الوسخ هو قانونه الأسمى.
إن الملك لديه مسؤولية كبرى في هذا الإصلاح. لأن العدل أساس الملك، وبدون عدل سيكون على المؤسسة الملكية أن تواجه تبعات الظلم الذي تنطق به محاكم كثيرة في المملكة باسمها.
إن إصلاح القضاء ليس هو ترصد مقالات الصحافيين والبحث عن هفواتهم، وأحيانا من أجل الانتقام منهم، للحكم عليهم بالسجن والغرامات المالية التي تنتهي بهم إلى الإفلاس. وإنما إصلاح القضاء هو أن يكون ثلاثون مليون مغربي سواسية أمامه، بغض النظر عن أسمائهم العائلية وانتماءاتهم الحزبية أو المالية. يعني أن كل هؤلاء «المحميين» الذين لا تطالهم القوانين والذين لازالوا يعيشون كما عاش آباؤهم أيام الحماية تحت ظل ظهائر التوقير والاحترام أو تحت حماية «البرتقيز» و«السبليون» و«النجليز»، في مأمن من التعرض للتتريك من طرف المخزن، يجب أن يفهموا أنهم يستطيعون أن يظلوا متمتعين بالحماية إذا أرادوا، ولكن حماية القضاء العادل، وليس حماية الظلم والجور والطغيان.
يجب أن يفهم كل من يريد أن يشارك في هذا الانقلاب الأبيض على الفساد القضائي في المغرب أن الصحافة المستقلة الجادة والملتزمة بقضايا الأمة وتاريخها وهويتها ودينها وقضاياها العادلة، ستحارب معه بثبات في نفس الخندق. لأنه لم يحدث في تاريخ الدول الديمقراطية أن تم الانتقال من عهد القضاء الفاسد إلى القضاء العادل بدون التحالف مع الصحافة المستقلة والجادة.
القضاء الفاسد يحارب الصحافة المستقلة بشراسة لأنه يعرف أن وجودها يهدد مصالحه ويقصر عمره ويضيق الخناق على مصالحه. الأحزاب لديها ما يكفي من نقط الضعف لكي تلتزم مقراتها كلما «حمر» القضاء عينه في وزرائها ونوابها. البرلمان تحول إلى مؤسسة لتبييض سمعة نوابه المتابعين قضائيا وإسقاط المتابعة عنهم، والتصويت لصالح قوانين تحمي هواتف أعضائه من آذان الحموشي وياسين المنصوري الطويلة، حتى يتحدثوا في صفقاتهم الانتخابية براحتهم.
سيكون مؤسفا جدا أن يدور العام ونحتفل بعيد العرش ويخطب الملك من جديد حول ضرورة إصلاح القضاء.
يقول الدكتور مولاي أحمد العراقي مخاطبا الحسن الثاني «إن الأمراض بديهية جدا، وكذلك يبدو علاجها أيضا. والأهم اليوم هو إزالة آثار الصدمة عن الشعب، والأخذ بيده، والإجابة عن همه بإصلاحات عميقة وضرورية، تتجاوب مع تطلعاته. وأرجو أن تسامحوني سيدي على تأكيدي مرة أخرى، بأنه بسبب عمق الصدمة، ليس هناك علاج سوى «الصدمة الكهربائية» بالمفهوم الطبي».
كما ترون، لازال هذا العلاج هو الوحيد الذي يصلح إلى اليوم لإنعاش قلب العدل المتوقف في صدر المملكة.
فمتى سنبدأ أولى الجلسات. جلسات العلاج طبعا، وليس جلسات المحاكمة.

0 التعليقات:

إرسال تعليق