السبت، 14 نوفمبر 2009

الآخرون

الآخرون

نحن المغاربة عموما لدينا ميل فطري نحو التملص من تحمل المسؤولية. الآخرون دائما هم المسؤولون، أما نحن فمجرد ضحايا أبرياء.
ومن يتأمل خطابنا اللغوي اليومي، خصوصا في تبرير المواقف المحرجة، يستخلص أننا أفضل من يطبق مقولة سارتر «الجحيم هم الآخرون». عندما يأتي الواحد منا إلى المطار متأخرا عن موعد إقلاع الطائرة ويضيع عليه موعد السفر يقول أن «الطيارة دارتها بيه». وعندما يمر بمحاذاة أحد الأسلاك ويمزق له سرواله يقول «شدني السلك». وعندما يصدم رأسه مع حائط يقول «ضربني الحيط». ولا يعترف أبدا أنه وصل إلى المطار متأخرا، أو أنه لم ينتبه جيدا أين يسير، أو أنه لم يحسب المسافة جيدا بينه وبين الحائط.
إن اللغة ليست سوى وعاء تختفي داخله ثقافتنا وسلوكنا الاجتماعي الذي يعتبر أن كل ما يحدث لنا من كوارث مرتبط بالآخرين، وأننا لسنا مسؤولين عن أخطائنا مادام هناك مشجب نعلق عليه هذه الأخطاء.
بالأمس قرأت تصريحا لوزير التعليم السابق الحبيب المالكي يقول فيه بأن «مشاركة الاتحاد في حكومة التناوب أضعفت موقعه». وكأن «الاتحاد» هو المسؤول الوحيد عن الضعف السياسي والجماهيري القاتل الذي انتهى إليه الآن، وليس وزراء هذا «الاتحاد» الذين تحملوا تسع حقائب وزارية منها حقائب مهمة كالعدل والتعليم والمالية. وقد كان على الحبيب المالكي أن يتحمل نصيبه كاملا من المسؤولية ويقول «إن مشاركتي كوزير للتعليم في حكومة التناوب، إلى جانب زملائي الوزراء الآخرين في الحزب، هي التي أضعفت موقع «الاتحاد». فالاتحاد الاشتراكي هو الضحية هنا، وليس هناك مبرر لتحميله مسؤولية الضعف الذي آل إليه، وإعفاء الوزراء الذين دخلوا الحكومة باسمه من المسؤولية.
وحتى عندما تحدث الملك والأحزاب السياسية عن عزوف المواطنين عن التصويت، لم ير أحدهم ضروريا أن يعترف بمسؤوليته في هذا العزوف. بل رد بعضهم سبب ذلك إلى حملات التيئيس التي تمارسها الصحافة المستقلة، ورد البعض الآخر ذلك إلى ضعف الحس السياسي الوطني لدى المواطنين.
يعني أن الملكية والأحزاب السياسية برآ ساحتهما من مسؤولية هذا العزوف. على الرغم من أن المواطنين يرون يوميا كيف أن الملك يلعب في رقعة الحكومة، ويقوم بنفسه بتدشين المشاريع والأوراش التي يدخل تدشينها في صميم العمل الحكومي. وعلى الرغم من أن المواطنين يرون يوميا كيف أن الأحزاب أصبحت تقبل لعب دور الكومبارس في البرلمان، عوض ممارسة الرقابة على العمل الحكومي كما تقتضي ذلك الحياة السياسية السوية.
وفي أغلب الشهادات والكتب التي «أفرج» عنها بعض الوزراء السابقين والمسؤولين الكبار في الدولة، والتي تتحدث عن فترة حكم الحسن الثاني ووجودهم إلى جانبه، لا نكاد نعثر على سطر واحد يخصصه هؤلاء للاعتراف بنصيبهم من المسؤولية في كل الأخطاء التاريخية التي يحصونها على الحسن الثاني. فتحول الرجل إلى شماعة لتعليق الأخطاء، حتى تلك التي اقترفها هؤلاء الوزراء والمستشارون السابقون.
وقد كنا نود أن نسمع الوزير الأول السابق عبد اللطيف الفيلالي يخصص فصلا في كتابه الذي ألفه حول فترة حكم الحسن الثاني، للحديث عن أخطائه السياسية الجسيمة. خصوصا عندما كان الحسن الثاني يقود أشرس حملة اعتقالات وتصفيات جسدية لمعارضيه. ألم يكن الفيلالي في تلك الفترة يتحمل مسؤولية وزارية إلى جانب الملك. ماذا فعل لكي يوقف آلة الحسن الثاني الجهنمية. ولماذا لم تكن لديه الشجاعة السياسية آنذاك لكي يستقيل من منصبه احتجاجا على استبداد الحسن الثاني بالحكم وإعطائه الأوامر بإطلاق الرصاص الحي في الشوارع على المواطنين كلما انتفضوا.
غالبا عندما نتحدث حول سنوات الرصاص، نذهب رأسا إلى الحسن الثاني. طبعا فهو المسؤول الأول سياسيا عما حدث، لكن ماذا عن معاونيه ومستشاريه ووزرائه. ألم يكن بينهم رجل واحد يستطيع أن يقلب الطاولة ويقول اللهم إن هذا منكر ويخلص ضميره ويبرئ ذمته أمام الله وأمام الشعب.
ثم من أرسل هؤلاء المعتقلين إلى غياهب المعتقلات السرية الجهنمية. أليسوا قضاة مغاربة، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، نطقوا بقرون كاملة وإعدامات بالجملة في حق متهمين كان بينهم بالتأكيد أبرياء. فهل سمعنا ذات يوم قاضيا واحدا يعترف أنه نطق أحكامه ضد هؤلاء المعتقلين السياسيين، ومنهم من لا علاقة له بالسياسة، لأن الأوامر العليا كانت تقول ذلك. من حاسب هؤلاء القضاة على جريمة إرسال الآلاف من مقترفي جريمة «السياسة» إلى المعتقلات، بل من تجرأ يوما على إثارة مسؤوليتهم السياسية في ما وقع خلال سنوات الرصاص. وكأن هؤلاء المعتقلين ذهبوا إلى زنازينهم مباشرة من أقبية التعذيب بدون الوقوف أمام القضاة والاستماع إلى أحكامهم القضائية.
لقد قرأت شهادة الأستاذ عبد الهادي بوطالب التي قدمها أمام لجنة استماع سرية، وسمعته يتحدث في الجزيرة حول ذكرياته إلى جانب الحسن الثاني. لكنني لم أسمعه يعترف بنصيبه من المسؤولية في ما وقع طيلة ثلاثين سنة من حكم الملك الراحل.
ورغم جرأة التقرير الذي رفعه الوزير الأول السابق مولاي أحمد العراقي إلى أنظار الحسن الثاني بعد انقلاب الصخيرات، والذي نشرته الصحافة مؤخرا، لم أعثر فيه على جملة واحدة يعترف فيها الوزير الأول بمسؤوليته المباشرة في إخفاق الحكومة آنذاك في تدبير الشأن العام للمغاربة. كل ما هناك أن العراقي وصف الحكومة بأنها «لا توجد بها فرق وزارية وإنما صورة كاريكاتورية للحكومة»، وأن «لجان الحكومة المكونة من ثلاثين شخصا لا تستطيع سوى معالجة بعض الملفات التي ليست ذات أهمية». ونسي مولاي أحمد العراقي أن يذكر نصيبه من المسؤولية كوزير أول يعتبر سياسيا رئيسا على الوزراء الكاريكاتوريين الذين يمثلون دور الوزراء أمام الشعب. لقد كان مولاي أحمد جريئا عندما قال للملك حقائقه الأربع كما يقول الفرنسيون، لكنه كان سيكون أكثر جرأة وانسجاما مع نفسه لو أنه قال للملك أن أحد أسباب انقلاب الصخيرات هو كون الوزير الأول كان أكبر كاريكاتور في الحياة السياسية المغربية.
وإلى جانبه كان هناك ثلاثون كاريكاتورا آخر هم وزراؤه. هكذا كانت الصورة الكاريكاتورية لحكومة الدكتور العراقي ستكون منسجمة وواقعية وفيها تلك الأمانة والصدق الذي نفتقده اليوم في الحياة السياسية المغربية.
لذلك فما أحوجنا اليوم لإعادة قراءة كتاب مرجعي اسمه «النقد الذاتي» تنكر له حزب الاستقلال، رغم أن كاتبه هو مؤسس هذا الحزب، العلامة علال الفاسي رحمه الله. لأنه درس سياسي وفكري عميق في تحمل المسؤولية وفي الجرأة على قول الأشياء والحقائق بدون خوف أو محاباة.
ويكفي أن نعرف أن علال الفاسي تحدث في «النقد الذاتي» حول التعدد في الزواج، وكان طرحه جريئا بالمقارنة مع العقليات المتحجرة في تلك الفترة، ودافع عن كون التعدد في الإسلام ليس هو الأصل وإنما الفرع، وشدد على تقنينه حفظا للمواريث وحقوق المحاجير. وهكذا فما يهللون له اليوم من تطبيق المدونة معتبرين إياه فتحا حداثيا مبينا سبقهم إليه علال الفاسي قبل نصف قرن ودفع ثمنه من رصيده السياسي.
ومن يسمع عباس الفاسي، زوج ابنة علال الفاسي، ووريث حزب الاستقلال من بعده، لا يستطيع تركيب جملتين دون أن يضع بينهما ما يفيد أنه لا يصنع غير تطبيق إرادة جلالة الملك، ويقرأ في كتاب «النقد الذاتي» فصلا يقول فيه علال الفاسي بأن أقرب نظام سياسي إلى النظام الإسلامي هو الملكية البريطانية، حيث الملكة تسود ولا تحكم. الآن يعتبر عباس الفاسي وحزبه مثل هذا الكلام ضربا من الخيانة الكبرى.
ليس هناك حل سحري للتقدم بالمغرب إلى الأمام. الوصفة سهلة وواضحة، على الجميع أن يتحمل مسؤوليته أمام التاريخ، في الخطأ كما في الصواب، في الرخاء كما في الشدة، في العدل كما في الظلم، في الرصاص كما في الورد.
وكل من يريد أن يذكر اسمه فقط في «الصفحات المشرقة» للتاريخ دون صفحاته المظلمة، عليه أن يفهم أن التاريخ ليس قائمة طعام يمكن أن تختار منها ما يناسبك وترفض ما لا يروق لك. التاريخ مثله مثل الديمقراطية، إما أن تأخذها كاملة أو تتركها كاملة. الوقوف في الوسط، مثل ما يفعل المغرب اليوم، ليس هو المكان الأكثر أمانا بالضرورة.

0 التعليقات:

إرسال تعليق