السبت، 14 نوفمبر 2009

وصفة الدكتور العراقي المنسية

وصفة الدكتور العراقي المنسية

إذا كان هناك من مسؤول يجب أن يتأمل جيدا التقرير القصير والعميق الذي وجهه مولاي أحمد العراقي الوزير الأول على عهد الحسن الثاني بعد انقلاب الصخيرات، والذي نشرته «لاغازيت»، فهو عباس الفاسي الوزير الأول الحالي.
أولا لكي يتعلم منه الجرأة في الحديث إلى الملك، بدون أن يضع بين جملة وجملة عبارات الثناء والولاء والإخلاص والنفاق. وثانيا لكي يتعلم منه القدرة على شرح مكامن الخلل في مملكة الملك، والحلول العاجلة لإنقاذ البلاد من السكتة القلبية، التي تشير كل التقارير الدولية ومؤشرات الظرفية العالمية إلى أننا ذاهبون نحوها ما لم نختر اللجوء إلى ما سماه الدكتور العراقي بالصدمات الكهربائية كحل أخير لإنقاذ هذه الحالة المستعجلة المسماة مغربا.
ولعل كل من قرأ التقرير القصير والمركز الذي كتبه وزير الحسن الثاني الأول بطلب من هذا الأخير، لفهم الأسباب العميقة التي انتهت بالعسكر إلى تغيير البندقية من كتف إلى كتف وتوجيه فوهاتها نحو الملك في انقلاب الصخيرات الدامي، يخيل إليه أن هذا التقرير كتب بالأمس فقط وليس سنة 1971.
واضح أن الملوك لا يحبون تلقي النصائح من أحد، إلا العادلون منهم، والحسن الثاني لم يكن أعدلهم، ولذلك فكل الاقتراحات التي اجتهد الدكتور العراقي في تقريره ظلت حبرا على ورق. وخرج الحسن الثاني من انقلاب الصخيرات بمزاج أكثر حدة، وشرع في ارتكاب إحدى أكبر وأبشع حملة اعتقالات سياسية عرفها المغرب المعاصر. ويبدو أن الدكتور العراقي عندما كان يكتب تقريره الطبي حول حالة المغرب الصحية، كان الملك يفكر في بيت الشاعر الذي يقول «وداوني بالتي كانت هي الداء»، ولذلك اخترع أبشع المعتقلات السرية وأرسل إليها معارضيه وعاد إلى ليالي أنسه وجوقه الملكي الذي كان يسيره أكثر مما كان يسير بلاده. وفي الوقت الذي كان وزير الملك يتحدث عن ضرورة «الأخذ بزمام الرأي العام الوطني، الذي يحتاج لأن يؤطر سياسيا، ويربى على المواطنة، وتصله الأخبار بشكل موضوعي وكامل»، كان الملك يفكر في تربية الرأي العام الوطني على الخوف والرعب، مع حرص شديد على أن تصله الأخبار بالشكل الذي يختاره وزيره في الداخلية والإعلام إدريس البصري. فنجح في أن يسلم ولي عهده على العرش شعبا تربى على الخوف والغباء وعدم الإهتمام عوض الاحترام والذكاء والمبادرة، وهو ما نبه إليه الدكتور العراقي في تقريره عندما قال للحسن الثاني «لاشك أن إفراغ الرأي العام من حسه النضالي يشكل خطرا جسيما. من جانب، فهو يخضع لكل أنواع التسميم من قبل المعارضة الوطنية أو الدولية. ومن جانب آخر، لا يجد أي تأطير في المواطنة أو السياسة. فلماذا نندهش إذن من غبائه ومن عدم اهتمامه».
هذا الكلام قيل قبل سبع وثلاثين سنة، والمدهش أننا لازلنا نسمع اليوم كل من يصعد منصة ويقف أمام ميكروفون يردده مثل ببغاء. وآخرهم فؤاد عالي الهمة الذي اكتشف، متأخرا على ما يبدو، أن هناك إفراغا للرأي العام من حسه النضالي وغيابا للتأطير على المواطنة وعزوفا عن السياسة. ولعل هذا وحده يدل على أن لا شيء مما وصفه الدكتور العراقي لعلاج «المريض المغربي» (مع الاعتذار لمخرج فليم «المريض الإنجليزي»)، تم أخذه بعين الاعتبار. الذي وقع هو العكس تماما، استمر النظام «يدمن» التغذية الدهنية نفسها، ويتعاطى حياة الرفاهية، وينام حتى منتصف النهار، إلى أن وصل نهاية التسعينات إلى حافة السكتة القلبية. فنصحه الأطباء ببيع ممتلكات الشعب للأجانب والاستعانة بثمن ذلك على العيش لفترة إضافية في غرفة العناية الخاصة. وعندما يخطب الملك محمد السادس قبل يومين في خطاب العرش ويقول بأن المغرب بحاجة إلى طبقة وسطى، فهذا يعني ببساطة أن النظام فشل إلى الآن في خلق هذه الطبقة الضرورية لحيوية الاقتصاد الوطني، وكل ما نجح فيه هو استمرار المعاناة من نفس الأعراض المرضية التي شخصها الدكتور العراقي للحسن الثاني قبل سبع وثلاثين سنة عندما صارحه قائلا «لاتوجد هناك فرق وزارية وإنما صورة كاريكاتورية للحكومة، والجماعات تتشكل وتتبدل وفقا للمصالح التي تحكمها اللحظة. وفوق ذلك، فالوزراء في غالبيتهم لا يحظون بالفرصة للاقتراب من جلالة الملك إلا نادرا، ما يفسر في الغالب الظلام الدامس الذي يجدون أنفسهم فيه بخصوص النوايا الحقيقية للملك حول الملفات الكبرى، وبالتالي يسود التأجيل والمحاباة والبحث عن التعليمات عبر الطرق الموازية والتدخل المقصود أو غير المقصود للأشخاص المقربين من الملك بكل ما يحمل ذلك من تنازلات.
باختصار، كل وزير يسبح بكل ما أوتي من قوة على أمل الحفاظ على نفسه، فالشعور بفقدان الأمان يولد الفساد والخوف من الغد، وأمثلة الإفلات من العقاب توقع في نهاية المطاف بأكثر الناس نزاهة».
سبع وثلاثون سنة بعد كتابة هذا الكلام، كانت الصحافة المستقلة كلها تتساءل لماذا لا يجتمع الملك محمد السادس بوزرائه كما ينص على ذلك الدستور. وذهب البعض إلى التساؤل حول مصير مشاريع القوانين التي ترهن حاضر ومستقبل البلد، والتي بدون توقيع الملك عليها لا يمكنها العودة إلى البرلمان. بعد سبع وثلاثين سنة من حديث الدكتور العراقي عن قلة النظر التي يعطيها الحسن الثاني لوجوه وزرائه، لازلنا إلى اليوم نتحدث عن الشيء نفسه بالنسبة للملك محمد السادس ووزرائه. وما يفسر ذلك هو تفضيل الملك للتعامل مع ما أسماه الدكتور العراقي «الطرق الموازية»، أي حكومة الظل المكونة من المقربين من الملك ومن مستشاريه وأصدقاء دراسته القدامى.
هناك جملة خطيرة وعميقة ضمنها الدكتور العراقي تقريره وهي أن «أمثلة الإفلات من العقاب توقع في نهاية المطاف بأكثر الناس نزاهة». ما معنى ذلك، معناه أن الملك إذا لم يأخذ على عاتقه تقديم المفسدين من وزرائه ومعاونيه وموظفيه السامين إلى القضاء لكي يقول كلمته فيهم، فإنه يعطي الضوء الأخضر لأكثر هؤلاء نزاهة إلى التخلي عن نزاهته وتقليد المفسدين الآخرين. فالإفلات من العقاب هو التأشيرة الوحيدة التي يحتاجها الفساد لكي يستقر في مملكة ما إلى أن يهد أركانها.
هل حوكم وزير واحد في المغرب منذ محاكمة الوزراء الشهيرة على عهد الحسن الثاني بتهمة الإرتشاء. عدا محمد زيان وزير حقوق الإنسان الذي حكم ابتدائيا بأشهر من السجن في محكمة «نانطير» بباريس، بسبب عدم احترام حافلات شركته للقانون، فلا أعرف وزيرا آخر وقف أمام القضاء وذهب إلى السجن.
هذه الأيام تنشر جريدة «إلموندو» الإسبانية سلسة مقالات سمتها «مراجعة للحالة الصحية لثلاثين سنة من الديمقراطية». ومن خلال هذه المراجعة تحقق الجريدة في محاسن ومساوئ الثلاثين سنة الأخيرة التي عاشتها إسبانيا تحت ظل الديمقراطية. وفي عدد الأمس تعرضت الجريدة لقضية هزت الرأي العام الإسباني وهي قضية «ليغال» التي تورطت فيها حكومة فيليبي غونزاليس الإشتراكية عندما اختطفت وعذبت وقتلت إرهابيين من منظمة «إيطا» الباسكية خارج القانون. كانت الصحافة أول من أثار هذه الفضيحة التي انتهت سنة 1998 بتوزيع عشرات السنوات من السجن على رئيس الشرطة ورئيس المخابرات ومسؤولين آخرين في الداخلية والأمن. أما فيليبي غونزاليس فقد كلفته هذه الفضيحة منصبه كرئيس للحكومة بعدما ترشح للانتخابات وخسر أمام اليمين.
الرسالة كانت واضحة، في إسبانيا الديمقراطية ليس مسموحا لأجهزة الدولة أن تعتقل أو تحقق خارج القانون. حتى ولو تعلق الأمر بإرهابيين دمويين يفجرون السيارات الملغومة أمام المدارس والفنادق والمقاهي، ويصفون القضاة والصحافيين وعمداء المدن بالمسدسات الكاتمة للصوت.
عندنا في المغرب الذي يقول نظامه أنه يؤمن بالديمقراطية، لازالت أجهزة المخابرات والأمن السري يختطفون المتهمين بالإرهاب من بيوتهم ليلا، ويستنطقونهم تحت الضرب والاغتصاب في معتقلات سرية، ومنهم من يقتلونه من فرط التعذيب. وفي الأخير يأتي وزير الداخلية إلى البرلمان ويملك الشجاعة لكي يبرر الاختطاف والاعتقال السري بكونه مجرد شكليات. وكأنه يجهل أن الشكليات هي أهم شيء في المساطر القانونية، وبدون احترامها تسقط المتابعة أصلا. وأمامه مثال القاضي الإسباني الذي خفض قبل أمس في مدريد حكما بخمس عشرة سنة لإرهابيين من «إيطا» بسبب خطأ شكلي اقترفته النيابة العامة في مسطرة المتابعة.
ولكي تتأكدوا بشكل قاطع من أن تقرير الدكتور العراقي لازال صالحا إلى اليوم ما عليكم سوى أن تتأملوا هذا الوصف السياسي الدقيق لحال السياسيين والإعلام والاقتصاد والممثلين البرلمانيين لمغرب الحسن الثاني بداية السبعينات وشبهه الشديد بمغرب محمد السادس الحالي، يقول الدكتور «فهل من الطبيعي أن تقضي التلفزة والإذاعة وقتهما في تسميم الرأي العام بالموسيقى والتاريخ بدل تربية الشعب، أي دور يقوم به النواب داخل دوائرهم، هل هم فعلا مؤهلون للقيام بمهامهم، أم أنهم يكتفون بوضع أربعة آلاف درهم في جيوبهم ويحلون مشاكلهم الخاصة في كواليس البرلمان. أليسوا منخرطين في اللعبة التي لا طعم لها لبعض القادة الذين يقتنصون اللحظة.
هل العالم الاقتصادي المغربي على علم بحقائقنا الحقيقية أم أنه هو أيضا اشتغل بالإشاعة العمومية. والبورجوازية الكبرى منشغلة باقتناص الفرص أكثر منها بتشجيع اقتصاد البلاد، ماهي اختياراتنا الكبرى، هل تناقش أرقامها وهل تطبق كما ينبغي. هل لدينا سياسة للشغل، سياسة زراعية، استراتيجية للتنمية.
هل تستجيب سياستنا المدرسية لاستراتيجية على المدى البعيد، أم أنها تكتفي بالعيش على أدنى مستوى لتتجنب الأزمات، باختصار، هل نحن على المسار الصحيح أم لا. لماذا نندهش إذن من اندلاع مأساة كتلك التي وقعت في الصخيرات».
ما أشبه الليلة بالبارحة، نفس برامج الأغاني والتاريخ المجيد يتكرر في القناة الأولى والثانية، ونفس نماذج البرلمانيين الذين لا فرق بينهم وبين برلمانيي السبعينات سوى أنهم اليوم أصبحوا يتقاضون ثلاثين ألف درهم عوض أربعة آلاف. ونفس المنخرطين في اللعبة التي لا طعم لها لبعض القادة الذين يقتنصون اللحظة، كالهمة وفريقه البرلماني الذي جمعه في رمشة عين. نفس البورجوازيين المنشغلين باقتناص الفرص أكثر من تشجيع اقتصاد البلاد، كأنس الصفريوي وشركته التي أضحت في سنتين عملاقا ماليا يحرك البورصة في أي اتجاه يريد. نفس «علماء» الاقتصاد الذين ينشرون إشاعة النمو الخارق للاقتصاد المغربي، في وقت يعترف فيه أمس وزير اقتصاد إسبانيا، التي يعادل دخلها السنوي دخل الدول العربية جميعها، بأن النمو يوجد في مرحلة الصفر وأن الأسوأ ينتظرهم. نفس التساؤلات الكبرى حول استراتيجية الزراعة ومخططها الأزرق، نفس التساؤلات حول السياسة التعليمية التي انتهت إلى الإفلاس، باختصار نفس السؤال الملح الذي يواجهنا في كل مرة «هل نحن على المسار الصحيح أم لا».
لماذا نندهش إذن من اندلاع مأساة كالتي وقعت في صفرو وسيدي إفني وخنيفرة وبولمان دادس وغيرها من المدن. ليس هناك مبرر للدهشة، فمن يزرع الريح يحصد العاصفة.

0 التعليقات:

إرسال تعليق