السبت، 14 نوفمبر 2009

من ابن بطوطة إلى ابن سليمان

من ابن بطوطة إلى ابن سليمان

كل المغاربة في الداخل والخارج الذين تابعوا حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في بكين يوم الجمعة الماضية، تسمروا أمام شاشة التلفزيون بانتظار مرور الوفد المغربي. مر الوفد الجزائري، وانتقلت الكاميرا إلى المنصة الشرفية حيث يجلس حوالي ثمانين رئيس دولة وأميرا جاؤوا لكي يشرفوا وفودهم الرسمية ويشجعوهم ويرفعوا من معنوياتهم، ونقلت الرئيس بوتفليقة الذي تحامل على مرضه وطار إلى بكين يتحدث مع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. ثم مر الوفد القطري وتحولت الكاميرا نحو المنصة لكي تنقل ولي العهد الذي جاء لحضور استعراض فريقه الوطني. ومرت جمهوريات سمعنا اسمها لأول مرة لا أحد يعرف موقعها في الخريطة، وشاهدنا رؤساءها يلوحون لرياضييهم بالمناديل والرايات الوطنية ويلتقطون لهم الصور التذكارية. أما الدول المتقدمة فكانت أغلبها ممثلة برؤسائها أو بأولياء العهد. فإسبانيا رافقها ولي العهد وزوجته ليتيسيا، وبوتين أشعل النار في أطراف جورجيا وجاء ليتفرج على استعراض فريقه الوطني وعلى البطل الصيني يشعل النار في الشعلة الأولمبية. وبوش وزوجته وقفا وصفقا طويلا لأكبر الفرق المشاركة في الأولمبياد عددا وعدة. وانتظرنا أن يمر فريقنا الوطني لكي نرى الوفد الذي ذهب لمساندته وهو يلوح من المنصة للمشاركين المغاربة مشجعا. فمر الوفد المغربي أخيرا، واكتشفنا أن بطلتنا في التكواندو، بنعبد الرسول، التي كان منتظرا أن تحمل العلم الوطني تراجعت إلى الخلف، بينما عوضها مدرب لا أحد سمع باسمه، بعد أن وصل الجنرال إلى بكين وقرر نزع العلم الوطني من يد المرأة ووضعه في يد الرجل. فالجنرال يتصرف في الرياضة كما لو كان في الثكنة، مطبقا بالحرف القانون العسكري الذي يمنع إعطاء التحية العسكرية للمرأة حتى ولو كانت تحمل فوق أكتافها أعلى الرتب العسكرية. كما يمنع عليها قيادة الحاميات العسكرية. وانتظرنا أن تصعد الكاميرا إلى المنصة لكي نرى وجوه الشخصيات المغربية التي جاءت لكي تمثل المغرب في هذا الحدث الرياضي الذي يتابعه العالم بأسره، فلم نر أحدا. ومر المغرب مثل أي جمهورية موز أو دولة صغيرة مرمية في الأرخبيل، أو مملكة في أطراف الكرة الأرضية لا يعرفها أحد. شعرت بالخجل من نفسي كمغربي، ونظرت إلى صديقي الذي كان يتابع معي الافتتاح وقلت له : - شفتي على شوهة... فأجابني ساخرا : - الناس مسيفطين الرؤساء والأمراء باش يشرفو بلاداتهم وحنا مسيفطين جنرال، ومن الفوق روشيرشي... فعدت وقلت أنه حتى ولو كان الجنرال العبوس جالسا بنظاراته الشمسية في الكرسي المخصص للوفد المغربي في المنصة، فإن المصورين والصحافيين المكلفين بنقل الحفل مباشرة إلى العالم لن يتعرفوا عليه. فالوحيدان اللذان يعرفان الجنرال خارج المغرب هما القاضي الفرنسي «باتريك راماييل» والقاضي الإسباني «بالتزار غارسون». ثم عدت وقلت أنه من حسن حظ المغرب أن المصور لم يلتقط الجنرال جالسا في المنصة تلك الجلسة الجامدة، مخفيا نظراته الباردة وراء نظاراته السوداء. فالجنرال العبوس لم يتعود الابتسام أمام الكاميرا ولا الوقوف احتراما للرياضيين والتلويح بقفازات يديه لتحيتهم. فالقواعد العسكرية الصارمة التي تربى عليها علمته ألا يقف احتراما «للسيفيل»، إلا إذا كانوا من العائلة الملكية، فإنه آنذاك يجثو بكل قامته المديدة على ركبته ويقبل الأيادي الكريمة. وتصوروا أن الكاميرا انتقلت عند مرور الوفد المغربي إلى المنصة وتعرفت على وجه الجنرال الذي جاء لكي يمثل المغرب، ونقلت إلى العالم وجها عبوسا قمطريرا لا تعرف الابتسامة طريقها إلى قسماته العسكرية. هل هذا هو المغرب الذي نريد «بيعه» لمئات الملايين التي تتابع افتتاح هذه الألعاب الأولمبية. مغرب يمثله جنرال صدرت في حقه مذكرة بحث وتوقيف دولية. إن الرؤساء والأمراء الذين حضروا برفقة وفودهم ونزعوا عنهم تجهم السلطة وبروتوكولها الثقيل وانصهروا في الجو الرياضي العام الذي ساد ملعب «عش الطائر»، لم يأتوا لأن وقتهم رخيص أو لأنهم أغبياء أو لأنهم لا يحملون هم شعوبهم وتركوها وحيدة لكي يذهبوا للتفرج على افتتاح الأولمبياد. لقد جاء كل هؤلاء الرؤساء والأمراء لكي يمنحوا بلدانهم بضعة ثوان من الاعتراف العالمي بوجودهم على سطح الكرة الأرضية. لقد ضيع المغرب على نفسه لحظات ثمينة لا تقدر بثمن، حينما كان العالم كله مشدوها نحو شاشة التلفزيون أمام مرور رياضييه وغياب ممثليه الرسميين. وكأن المغرب الذي يحتفل هذه الأيام بمرور 1200 سنة على وجوده، المغرب الذي كان أول من اعترف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية، والذي وصل ابن بطوطة من طنجة إلى الصين قبل مئات السنين وألهمت رحلته الكتاب والمغامرين، المغرب الذي منه انطلق الفتح الإسلامي نحو أوربا، المغرب الذي ترك بصمات لا تمحى في ذاكرة ألعاب القوى، هذا المغرب يخرج في افتتاح الألعاب الأولمبية من الباب الصغير، مثل تلك الدول حديثة العهد التي خرجت من رحم أوربا الشرقية، حتى دون أن يكون له وفد رسمي يليق بمكانته وتاريخه بين دول المعمور. واضح جدا أن المغرب فقد جزءا كبيرا من مكانته الدولية. فهمت ذلك أكثر عندما أردنا أن نرسل مبعوثين صحافيين إلى موريتانيا لتغطية الانقلاب الذي وقع فيها. فاكتشفنا أن موريتانيا بدورها أصبحت تفرض التأشيرة على المغاربة. وعندما سألت أحد الأصدقاء حول سبب هذا الإجراء قال لي بأن ذلك راجع إلى الاجتياح الكبير للمغربيات لنواكشوط ومدنها المجاورة. فهذه للأسف الشديد هي الصورة التي أصبحت للمغرب في كثير من الدول. بلد يصدر بناته ونساءه ورجاله، وحتى أطفاله القاصرين. ولهذا فالرياضة تنفع كثيرا لترميم الصورة الخارجية للدول. وهذه المسألة فهمتها الصين جيدا. ولعله من باب النفاق أن لا نعترف بأن كثيرا منا غيروا نظرتهم للصين والصينيين بعدما شاهدوا حفل الافتتاح الرائع الذي قدموه للعالم. لقد أظهروا للعالم بأسره عبقريتهم وموهبتهم ودقتهم الشديدة وصرامتهم وحرصهم على تشريف بلدهم بعرض تاريخهم وحضارتهم في لوحات فنية مبتكرة، جعلت ألد خصومهم يقفون منبهرين من علو كعبهم. ولعل أول شيء يجب على المغرب أن يبدأ به لإنقاذ ماء وجهه هو انتزاع الرياضة من يد العسكريين. إنه لمن المخجل أن تستمر جزمة العسكر جاثمة فوق صدر الرياضة المغربية إلى اليوم، بعد كل الهزائم التي منيت بها هذه الرياضة تحت إشرافهم. السياسيون الذين يفهمون قيمة الرياضة وأهميتها للتوازن النفسي للمواطنين، يفعلون ما بوسعهم لضمان بقاء الروح الوطنية مشتعلة، لأنهم يعرفون أنها هي الوقود الذي سيلجؤون إليه لضخ الشعور الوطني لمواطنيهم. في إسبانيا وصل النمو الاقتصادي إلى الصفر، واشتدت الأزمة الاقتصادية، ومع ذلك لازال الشعور الوطني قويا بفضل انتصارات لاعب التينس «ندال» وراكب الدراجة «ساستري»، وبفضل المنتخب الإسباني الذي جلب للإسبان كأس أوربا، وبفضل أبطال كثيرين في الجمباز والسباحة والفورمولا واحد وغيرها من الرياضات. ولعل أحد أسباب انحدار الشعور الوطني للمغاربة هو هذه النكسات التي تعرفها منتخباتهم الرياضية. ومن شدة افتقاد المغاربة لرؤية راية بلادهم ترفرف فوق منصات الملاعب الدولية، أصبحوا يعلقون هذه الراية فوق أعناق كل من جاء إلى المغرب وصعد منصة وأخذ ميكروفونا وبدأ يغني. فلم يعودوا يفرقون بين الشاب بلال وبين ماجدة الرومي، المهم أن يروا راية بلادهم مرفوعة فوق أكتاف أحدهم. الرياضة ليست سوى الوجه الآخر للسياسة. وإلا لما جاء كل هؤلاء الرؤساء التسعين إلى بكين لحضور افتتاح الألعاب الأولمبية. ولعل أكبر دليل على أنه لا يمكن فصل الرياضة عن السياسة هو موقف السباح الإيراني الذي رفض العوم إلى جانب السباح الإسرائيلي وانسحب من المنافسة. ولو أن الموقف الأكثر عقلانية كان هو أن يسبح الإيراني إلى جانب الإسرائيلي ويتفوق عليه في النهاية. لا أن يترك له المسبح ويغادر منهزما. نتمنى أن يتمكن أبطالنا من رفع العلم المغربي في بكين، كما رفعه مغاربة قبلهم في بلدان أخرى. كما نتمنى أن يحالف الحظ المغاربة الآخرين الذين يخوضون هذه المنافسات تحت رايات وجنسيات أجنبية. فهم مغاربة على كل حال، حتى وإن كان معهم هذا المغرب قاسيا، إلى الحد الذي قايضوه بغيره.

0 التعليقات:

إرسال تعليق